الصيام .. أوله فى النفس وآخره عند الله
كنت ورفاقي الصغار نفرح برمضان لأسباب متعددة , ولكن كان أهمها بالنسبة لنا هو أن العفاريت تكون مقيدة فى هذا الشهر , فكنا نرتاد كل الأماكن ليلا ونهارا بلا خوف فنحن على يقين من غياب العفاريت , وكنا نتمنى أن تكون السنة كلها رمضان لهذا السبب بالذات , حيث كانت قصص العفاريت وحكايات الشياطين تملأ عقولنا فى هذا الوقت وتنغص علينا حياتنا , فإذا انتهى رمضان عادت المخاوف والمحاذير مرة أخرى تملأ عقولنا وقلوبنا الصغيرة .
وحين كبرت وتخلصت من موضوع العفاريت هذا لم أنج من شعور بالرتابة والسآمة والملل ينتابنى فى كل عام فى الفترة التى تسبق رمضان , وأشعر أن ثمة ركام من الأحزان والمخاوف والقلق يملأ جنبات نفسى , فأتذكر أن رمضان قد اقترب , فهو بالنسبة لى موسم علاجى تتطهر فيه نفسى من كل ما علق بها خلال العام (وهو كثير) , وموسم بهجة لا أعرف سببها بالتحديد فقد يكون تراكم خبرات طفولية سعيدة عشتها فى رمضان فارتبطت به زمانا وطقوسا وروحا .
ولهذا ولغيره تتوق نفسى إلى اقتراب رمضان وقدومه كى أستريح وتهدأ جوانحى وتتجدد حياتى . فعلى الرغم من امتلاء نهار وليالى رمضان بالتغيرات والأحداث إلا أننا نشعر أننا مقبلون على استراحة نفسية نتخفف فيها من أعبائنا وهمومنا وأحزاننا . وبهذا المعنى يصبح رمضان جائزة سنوية , وشيئا منتظرا وتجديدا فى حياتنا يذهب عنها الرتابة والنمطية والملل .
والنفس تستشعر هذا بشكل أكثر وضوحا حين يهل شهر رجب ثم يزداد الشعور بالشوق أكثر حين يهل شهر شعبان , وقد يصاحب هذا الشوق نوع من القلق الذى نستشعره ونحن فى انتظار حبيب فتدور فى نفوسنا تساؤلات عن طبيعة القدوم وظروفه , وعن استعدادنا لذلك من عدمه , وعن قدرتنا على الإستقبال , وقدرتنا على تحمل التغيير الحادث فى حياتنا بقدوم هذا الحبيب , وهذه الدرجة من القلق لا تضيع فرحة الإنتظار بل توقظ الحواس للإستقبال , وتزيل بلادة الحياة الرتيبة الجامدة المتكلسة تأهبا لحركة جديدة وحياة متغيرة .
أفراح رمضان :
وتتبدى فى أشياء كثيرة منها :
* استطلاع الهلال : قد يبدو منطقيا أن حساب بداية رمضان بالوسائل الفلكية أكثر دقة وانضباطا , ولكنه من جانب آخر يحرمنا من أشياء أحسبها مهمة من الناحية النفسية والروحية , فانتظار رؤية الهلال بالعين المجردة مع احتمالات ظهوره أو عدم ظهوره يعطى فرصة للتطلع العام نحو السماء , وإعادة الإرتباط بها بعد طول نسيان وطول انغماس فى النظر إلى الأرض , كما أن لمفاجأة الرؤية بهجتها وطعمها وحلاوتها . وأتمنى أن تنتشر بين الناس عادة الصعود إلى أسطح منازلهم وإلى المرتفعات والجبال لرؤية الهلال بأنفسهم , وهو أمر متاح لكل الناس لو صدقت نيتهم وعلت همتهم , وأن لا يكتفوا بمعرفة بداية رمضان فلكيا أو تليفزيونيا . وربما لهذا السبب (وغيره) ما زالت بعض الدول تصر على الرؤية بالعين المجردة للهلال وتشجع مواطنيها على محاولة الرؤية وتخصص جوا