عبقرية محمد صلاح

عبقرية محمد صلاح


لماذا يعشق الناس محمد صلاح ؟ ...

كثيرا ما تعلقت القلوب بنجوم الكرة الموهوبين على مر السنين , ولكننا في السنوات الأخيرة أمام ظاهرة استثنائية هي محمد صلاح لاعب الكرة المصري الأسطوري الذي انتقل من لعب الكرة الشراب في حواري قرية نجريج مركز بسيون محافظة الغربية إلى قمة الأندية الأوروبية وتحول إلى بطل قومي تتجمع حوله قلوب المصريين وتملأ صوره الشوارع والميادين والطرق وشاشات التليفزيون . حين ترى وجه محمد صلاح لاتستطيع الإلتفات عنه بسهولة فستأسرك ملامحه وشعر رأسه ولحيته الذين اكتسبوا مع وجهه جمال الشواش , وتشعر أنك أمام وجه مختلف عن كثيرين ممن تراهم كل يوم على الرغم من أنه بلحيته الكثة وشعره المنكوش (بعناية) يشبه الكثيرين من شباب مصر الذين تراهم كل يوم في الشوارع , وأول وأقوى ما يشدك إليه نظرة عينيه اليقظة والمنتبهة والطموحة والجادة والمصممة والطيبة في ذات الوقت مع ابتسامته الهادئة المطمئنة التي تشع نورا أسطوريا في وجهه الريفي البسيط , والذي يبدو وكأنه فرغ لتوه من الوضوء وصلاة الفجر . وعلى الرغم من التزامه وانضباطه وجديته إلا أنه لم يحرم نفسه من إطلاق شعر رأسه وشعر لحيته في مظهر شبابي عصري أقرب للروشنة والتحرر , وكأنه يوازن بين جوهره ومظهره , أو بين الظل والقناع , أو بين الأصالة والمعاصرة , وكأنه في حالة تصالح مع ذاته ومع سائر مكوناته النفسية , وينعكس كل هذا في ملامح وجهه المليئة بالرضى والطمأنينة والسلام , وفي ابتسامته المضيئة التي تملأ وجهه السعيد المطمئن .

النقلة الهائلة من اللعب بالكرة الشراب في شوارع وحواري قرية نجريج الزراعية الصغيرة في دلتا مصر إلى نادي ليفربول وملاعب أوروبا والدوري الممتاز حيث عباقرة وأساطير الكرة العالمية , تلك النقلة حدثت في زمن قصير نسبيا , ويبدو أن صاحبها محمد صلاح كان يتحلى بمجموعة جوانب نفسية وعبقريات شخصية ومهنية وأخلاقية أهّلته لأن يعبر الكثير من الحواجز والعقبات بثبات ملفت للنظر وبسرعة لا يكاد يتوقعها أحد وباستقرار نفسي ومهني وأخلاقي في ظروف بطبيعتها مزلزلة لأي تكوين نفسي عادي أو حتى متميز .

والموهبة وحدها لا تصنع النجاح مهما كانت قوتها , إذ لابد من ذكاء عقلي ووجداني واجتماعي لإدارة الموهبة والحفاظ على استمرارها وتوهجها , وهذا ما يتبدى في حالة محمد صلاح , إذ يجمع بين الموهبة وبين ذكاء حاد (يطل من عينيه بوضوح) يرعى هذه الموهبة ويمهد لها الطريق ويذلل أمامها المصاعب ويحميها من التناثر أو الإحتراق .

محمد صلاح الذي ولد عام 1992م في أسرة فقيرة لم تستطع تحقيق حلمه في التعليم الجامعي ويضطر للإلتحاق بمعهد اللاسلكي يصبح بعد سنوات أسطورة الكرة العالمية محققا الإنجازات التالية على سبيل المثال لا الحصر (ومازالت الإنجازات متدفقة حتى وقته وتاريخه) : حاز جائزة أفضل لاعب إفريقي صاعد لعام 2012 , ثم جائزة لاعب الموسم في نادي روما 2015/2016 , وكان أول لاعب مصري يفوز بجائزة أفضل لاعب في الشهر خلال منافسات الدوري الإنكليزي , ثم اختير ضمن التشكيلة المثالية لبطولة الأمم الأفريقية عام 2017 , وحاز جائزة BBC لأفضل لاعب أفريقي عام 2017.

إذن ماهو السر وراء هذا الصعود المضطرد والسريع لهذا الشاب الريفي البسيط ؟

تبدو الإستقامة أحد عوامل النجاح المهمة عند محمد صلاح فحياته تتسم بالإنضباط الشديد والإلتزام المهني والأخلاقي والشخصي , فعلى الرغم من نجاحاته المبهرة وعبقريته الكروية العظيمة وشهرته ونجوميته وكاريزمته , إلا أنه لم ينجرف مع ما انجرف فيه من هم في مثل هذه الظروف أو حتى أقل بكثير , فلديه حالة ثبات عجيبة أمام إغراءات وإغواءات الشهرة والنجومية , ولديه موقف متواضع في كبرياء تتحدى كل إغراءات الغرور وانتفاخ الذات , وهذه عبقرية أخرى تضاف إلى عبقريته الكروية . ويشير عمدة قريته إلى هذا البعد المهم في شخصية صلاح بقوله : إن صلاح ورغم احترافه في أكثر من نادٍ أوروبي مازال يصر على قضاء إجازته السنوية في مسقط رأسه، ولا يتأخر عن مشاركه أبناء القرية في أفراحهم وأحزانهم، ودائماً يحرص على قضاء العيد وسط أسرته وأصدقائه، فضلاً عن قيامه بأعمال الخير في القرية، مضيفاً أن صلاح ومنذ عهدناه طفلاً لم نشاهده إلا مواظباً على الصلاة وقراءة القرآن والمشاركة في المناسبات الاجتماعية التي تخص أبناء قريته، كما لم نشاهده يوماً ما متورطاً في مشاجرة أو متلفظاً بلفظ غير لائق، فلم نر منه إلا كل خير وكل جميل .

 ومحمد صلاح يتمتع بمجموعة عبقريات على مستويات نفسية متعددة نذكرمنها :

عبقريته الأخلاقية , وتتبدى في قدرته على الإحتفاظ بتوازنه أمام بريق وإغواءات الشهرة والنجاح , وقدرته على الثبات والتوجه مباشرة نحو أهدافه في تحقيق أعلى مستوى من الأداء يتجاوز به كل المستويات المعروفة محليا وعالميا , ويجعل النجوم العالميين يتراجعون وراءه واحدا بعد الآخر , وهو منطلق كالصاروخ نحو هدف لا يعرفه أو يتوقعه أحد , فيبدو أن سقف طموحه أعلى بكثير مما يتوقعه الناس . وعلى الرغم من كثرة معجبيه وكثرة أسفاره وتحركاته وصوره , لم تلتقط له أي صورة في وضع غير مناسب , وغالبية صوره تراها في الملاعب مع الكرة , أو يداعب ابنته "مكة" , أو يتزلج على الجليد , أو يزور الأهرامات , أو أمام برج إيفل , أو أمام المسجد الأقصى في القدس , أو يصطاد سمك , أو يسبح في الماء وحيدا , أو مع أطفال قريته .

عبقرية الوقت لديه , وتظهر في انطلاقته السريعة جدا من طفل يلعب الكرة في قريته الصغيرة , ثم ينتقل إلى نادي المقاولون العرب , ثم يدق على أبواب أندية الدرجة الأولى مثل نادي الزمالك , وحين لم يوفق في الإلتحاق به , تطلعت عيناه الصاحيتين المفتوحتين عن آخرهما إلى الآفاق العالمية والإحتراف الدولي , وحين يصل إليه لم يركن إلى مكانته في ناد واحد , وإنما ينتقل وبسرعة من ناد إلى ناد أفضل , وانتقالاته ليست اندفاعات متهورة , أو تقلبات انفعالية , أو خلافات مع الإدارة , أو قفزات في الفراغ , أو عقوبات فنية أو إدارية , وإنما نقلات محسوبة ومتوجهة نحو المعالي والتميز ثم التميز الأعلى بلا نهاية , فهو لا يضيع لحظة دون عمل وإنجاز على طريق يرى بداياته ونهاياته بوضوح شديد , ولا يلتفت يمينا أو يسارا إلى شيء يعطله ولو لحظة عن تحقيق هدفه . ولا يتخيل أحد كيف كان محمد صلاح وهو طالب صغير يخرج من مدرسته كل يوم في العاشرة صباحا بإذن خاص من إدارة المدرسة لكي يسافر على أربعة مراحل من قريته إلى نادي المقاولون العرب ليتدرب هناك حيث يقطع المسافة فيما لايقل عن ثلاث ساعات ذهابا ومثلهم إيابا , ويكرر ذلك لسنوات بإصرار عجيب مع ما يمثله ذلك من إرهاق شديد وحرمانه وهو مايزال طفلا مما يتمتع به أمثاله من اللهو واللعب أو حتى الراحة والإسترخاء .

 عبقريته الأسرية , وتتبدى في استقراره الأسري من حيث انتمائه لأسرة مصرية ريفية بسيطة واعتزازه بذلك الإنتماء والإرتباط القوي بأسرته وقريته ووطنه , وارتباطه بزوجته وابنته على الرغم من دوائره العالمية التي تتسع يوما بعد يوم ومعجبيه ومعجباته الذين يملأون الدنيا ويتشوقون إلى نظرة منه , وهذا الاستقرار الأسري ربما يحميه من انزلاقات كثيرة يقع فيها من هم في مثل ظروفه ويكلفهم ذلك تضييع الكثير من طاقاتهم ووقتهم وتميزهم . ومن المعتاد في الأسر المصرية التقليدية أن تقف أمام انشغال أبنائها بلعب الكرة وتعتبر ذلك تضييع لوقتهم وانشغال عن دراستهم التي يعتبرونها أهم من ممارسة أي رياضة , ولكن هذا لم يكن موجودا في أسرة محمد صلاح إذ كان والده يشجعه على تحقيق حلمه , على الرغم من أن هذا الحلم لم يكن واضحا في ذلك الوقت . وقد حرص صلاح على أن يصطحب والديه وإخوته إلى أوروبا , وأن ينزل من أوروبا عام 2013م زاهدا في فتياتها ليتزوج فتاة محلية من القرية هي صديقة طفولته ماجي محمد وينجب منها ابنة سمّاها "مكة" (ذلك الإسم الذي يعكس الخلفية الدينية لدى صلاح وزوجته) , ليشكل هذا الكيان الأسري قاعدة انطلاق ثابتة وراسخة , ولكي تحميه هذه الدائرة الأسرية من مغريات وغوايات الحياة في أوروبا خاصة لمن هم في مثل شهرته. ومن حسن حظه أنه نشأ في أسرة كروية فوالده كان لاعبا مميزا وعمه وخاله كذلك , وكان الثلاثة يلعبون في فريق القرية , ويتمتعون بمهارات عالية , وتربى محمد صلاح وسط عائلة تعشق وتقدر كرة القدم , ولاحظ والده موهبته منذ البداية فشجعه وتعب معه كثيرا , وكان يتحمل عناء اصطحابه وهو طفل من نجريج في محافظة الغربية إلى القاهرة حيث نادي المقاولون العرب , وظل يدعمه حتى وصل إلى العالمية , وكأن القدر ساق محمد صلاح ليحقق طموحات أسرته الكروية .

ويذكر أن الطفل محمد كان تبدو عليه ومنذ الصغر الموهبة الكبيرة، فقد كان يغازل الكرة "بطريقة مارادونية"، وتنبأ له الجميع بمستقبل باهر، وعقب وصوله لسن السابعة ألحقه والده بأندية المحلة وبلدية المحلة التي تبعد عن مركز بسيون بحوالي 30 كيلومتراً، وبسبب المسافة الكبيرة، والإرهاق الشديد الذي كان يعانيه الطفل الصغير نتيجة السفر يومياً للتدريب، قام والده بنقله لنادي بسيون القريب من القرية.

وقد كان انتقال محمد صلاح لفريق المقاولون صدفة عجيبة فقد كان أحد الكشافين للمواهب الصغيرة ويدعى رضا الملاح قادماً للقرية لمشاهدة لاعب اسمه شريف لضمه لنادي عثماسون التابع لشركة المقاولون العرب، وفور وصوله لمركز شباب القرية لمشاهدة شريف طلب منه أن يشارك زملاءه الصغار في تقسيمة كروية لرؤيته على الطبيعة، وكان من بين هؤلاء الأطفال الصغار محمد صلاح، وبدأت التقسيمة وانبهر الكابتن رضا الملاح بمحمد صلاح وناداه وطلب منه مقابلة والده، حيث اتفق معه على ضم ابنه لنادي عثماسون .

 وكان محمد صلاح – رغم صغر سنه - يسافر وحده يومياً للقاهرة للتدريب، وكان والده ينتظره أمام محطة القطار بالساعات في البرد القارس والحر القائظ ، وخلال سنوات من التعب والجهد والمشقة بزغ نجم محمد صلاح، وبدأ يخطو خطواته الأولى نحو التألق والنجومية.

ويحكي عنه أهل قريته أنه ارتبط بقصة حب مع زميلته في المدرسة الإعدادية ، وهي من أبناء القرية أيضاً، وبادلته الحب، ولكن لم يسمع أحد بهذه القصة ، فلم يلتقيا ولو مرة واحدة ، بحكم العادات والتقاليد، ولكن كان حبهما صامتاً، وعقب احترافه في نادي بازل السويسري استغل صلاح أول إجازة يحصل عليها من ناديه الجديد ، وتقدم لوالدها بعد سنوات طويلة من الحب الصامت الراقي والنظيف , وتمت خطبتهما وزواجهما في حفل بهيج ، وأصر صلاح على إقامته في القرية ومشاركه أهالي قريته لفرحته .

عبقرية انتمائه , فهو دائم التردد على قريته خاصة في رمضان مع عطاءات مادية ومعنوية كثيرة لأهل قريته فأعطى تبرعات لمدرسته القديمة , وهدايا لأطفال القرية , وساعد في شراء مستلزمات الزواج لعدد من الشباب الفقراء , وهو يفعل ذلك في صمت , ولم يرد منه وجاهة أو مدح أو شهرة فهو في غنى عن كل ذلك , وإنما فعله لبذرة خير في داخله ولشعوره الدائم بالإنتماء لهذا المجتمع القروي البسيط والصغير .

عبقريته في البعد عن الصراعات المستنزفة للطاقة , فلم نره يدخل في حوارات أو منازعات أو خلافات أو استقطابات مجهدة مع أحد , فهو يضن بوقته وجهده على أي شيء من ذلك , إذ لا يوجد لديه وقت يضيعه في أي شيء من ذلك , وبالتالي حافظ على كل وحدة طاقة وعلى كل وحدة زمن ليندفع كل يوم إلى تحقيق تميز جديد والإرتقاء إلى مستويات أعلى وغير متوقعة في الأداء .

عبقريته في البعد عن الإستقطابات السياسية أو الدينية , إذ تعلم صلاح الدرس من نجوم سابقين فنأى بنفسه عن أي تصريحات أو سلوكيات تجعله محسوبا على تيار سياسي أو ديني معين فظل محبوبا ومقبولا ومعشوقا من الجميع كبارا وصغارا.

عبقرية الحفاظ عل صحته , فمن المعروف عنه أنه يهتم بكل تفاصيل حالته الصحية فلا يسهر ولا يدخن ولا يتعاطى أي شيء يؤثر في سلامته النفسية والجسدية , ولا يقضي أوقاتا مع شلة تأخذه يمينا أو يسارا , وليست لديه علاقات جانبية تستنزف طاقته النفسية أو الجسدية أو تشتت وعيه وانتباهه وتركيزه , فتراه دائما في صحة جيدة وفي حالة تركيز وانتباه ويقظة , وهذا ينعكس في سرعته الفائقة في الملعب وانتباهه الحاد لكل حركة تحدث من حوله وسرعة إدراكه وتصرفه في المواقف الحرجة , وانتهاز الفرص للتسديد الموجه بدقة .

عبقرية عصاميته , فهو قد شق طريقه بمجهوده الشخصي تماما , ولم يستفد من أي توصية أو أي وساطة أو أي مساعدة من هذا أو ذاك , بل شق طريقه محليا وعالميا بموهبته المتفردة ومجهوده الفائق والمتدفق , وهو كأي عصامي هاجسه الصعود الدائم والمستمر , فهو لا يتوقف عند مستوى معين من النجاح ويكتفي بذلك ويستريح ويجني ثمرة نجاحه في رفاهية العيش والتمتع بحب المعجبين والمعجبات , ونيل حظ نفسه من متع الدنيا , خاصة وأن شهرته ونجوميته أعطته مالا وفيرا وحبا جارفا وانبهارا يأخذ بالألباب ويهز النفوس ويزلزل ثباتها ويخل بتوازنها , ولكنه لم يفعل ذلك , وربما لم يلتفت إليه فكأنه جاء إلى الحياة بشكل أسطوري ليؤدي مهمة عظيمة , وعيناه مركزة عل هذه المهمة ولا يكاد يرى ما حوله من مغريات , وكأنه زاهد في كل شيء إلا نجاحه وتميزه , وكأنه ناسك في محراب الكرة , ومنصرف عن كل التعلقات والشواغل والمغريات , ومتبتل في مهنته التي هي – لحسن الحظ – هوايته ومعشوقته .

 عبقرية أيقونته ورمزيته , فمحمد صلاح لم يعد مجرد لاعب كرة يهتم به من يعشقون كرة القدم أو يتابعونها , بل تجاوز هذا بكثير , بحيث أصبح أيقونة نجاح عظيمة ومبهرة ورمزا لكل ماهو جميل في حياة أي شاب مصري عربي مسلم , وأصبح يجسد كل قيم الكفاح والصمود والنقاء والكبرياء والتواضع والشموخ والعزيمة والإصرار والحب والطموح بلا حدود وكسر كل الحواجز والإنطلاق بسرعة صاروخية نحو النجاح النظيف الخالي من أي شوائب , وأصبح رمزا للإستقامة والنظام والنظافة والإنضباط والإلتزام والوطنية والعالمية والإنسانية , فأصبح قدوة لأي شاب ليس فقط في بلده مصر بل في أي بلد في العالم . ولهذا ليس غريبا أن توضع له أغان تمجد فيه في أكثر من بلد أوروبي وبأكثر من لغة يغنيها الكبار والأطفال .

عبقرية تواضعه , فعلى الرغم من كاريزمته الهائلة ونجاحه منقطع النظير , وتقدمه في مجاله بشكل سريع جدا رغم صغر سنه , وانتقاله من مجاله القروي البسيط إلى آفاق عالمية عالية المستوى , وحصوله على المال الوفير والشهرة الفائقة والنجاح المتصاعد , إلا أنه لم يفقد قدرته على الثبات والإتزان , ولم يفقد بساطته وتواضعه , ولم تنتفخ ذاته أو تتضخم , ولم يسقط في بحر الغرور أو التعالي , وهذا ينم عن تماسك نفسي عميق وثبات انفعالي هائل , وتوازن أخلاقي راسخ , وهذا شيء مذهل في شخصيته , إذ على الرغم من حركته الواسعة والمتدفقة والسريعة نحو النجاح المتصاعد , إلا أن لديه حالة هدوء وطمأنينة وسلام نفسي وتواضع يوازنان حركته وانطلاقته الصاروخية , وربما يساعد في ذلك مايتحلى به من قيم دينية , وقيم أخلاقية , وفطرة ريفية بسيطة ومستقرة , وأسرة متماسكة ومساندة وداعمة , ومتواجدة معه حتى في أوروبا .

عبقريته كبطل قومي , فقد جاء نجاح محمد صلاح في ظروف قاسية مرت بها مصر والعالم العربي , انهارت فيها أخلاق الناس وتساقطت الرموز والقيادات , وسادت حالة من اليأس والإحباط والألم بسبب التقلبات والإستقطابات السياسية والأزمات الاقتصادية والمؤامرات العالمية , فكان محمد صلاح سببا أساسيا للشعور بالبهجة والشعور بالإنتصار والشعور بالكرامة , والأمل في النجاح مهما كانت التحديات والعقبات والأزمات , وأصبح محمد صلاح نبراسا لأي طفل أو مراهق أو شاب , وأعاد الثقة إلى قيم العمل والصبر والمثابرة والصمود والكفاح وتحديد الهدف والإرتقاء المستمر نحو المعالي , فانتشل الملايين من هوة اليأس والقنوط , لذلك تحول من مجرد لاعب كرة ناجح ومتفرد إلى بطل قومي وإلى رمز لكل ماهو ناجح وإيجابي وجميل وراق وأخلاقي , خاصة حين صعد بالمنتخب المصري إلى كأس العالم بعد مضي ثلاث عقود ومصر بعيدة عن هذا المستوى .

وتنتشر صور محمد صلاح في طول مصر وعرضها , وأي شركة أو مؤسسة تريد جذب الأنظار لمنتجاتها أو نشاطها تضع صورة محمد صلاح , وقد جعل هذا صلاح وجها مألوفا ومحبوبا للجميع , ورمزا للمصريين يتفقون عليه رغم اختلاف توجهاتهم , ورغم مابينهم من تباينات خاصة بعد الثورة والفترة الإنتقالية والنزاعات السياسية , فقد نجح محمد صلاح في توحيد قلوب المصريين على ابن عبقري من صلبهم ومن بيئتهم ومن عمق جوهرهم الحضاري . وهو ليس فقط بطلا محليا بل بطل عالمي ترى صوره في أي بلد تذهب إليه على الكثير من الإعلانات والنشاطات الكروية وغير الكروية , ويؤلفون له الأغاني التي تعبر عن حب جارف . وبهذا كان لمحمد صلاح دور هائل في تحسين صورة المصري والعربي والمسلم في وعي المواطن الأوروبي .

ولم تكن رحلة صلاح كلها وردية وناجحة , وإنما عاش محطات إحباط قاسية , أولها حين رفضت إدارة نادي الزمالك شراءه من نادي المقاولون زهدا فيه وتقليلا من قيمته مقارنة بالمبلغ الذي كان مطلوبا فيه , ووقتها تحطم حلمه في الإلتحاق بأحد فريقي القمة الكروية في مصر , وعانى أيضا إحباطا حين التحق بنادي شيلسي في إنجلترا , وكان يشارك في عدد قليل من المباريا ويقضي أغلب وقته على دكة الإحتياطي , ولكنه كان يحشد في داخله طاقة تحدي من هذه المحطات السلبية المحبطة ليبث هذه الطاقة جهدا إيجابيا في أول محطة تسمح بتفجر طاقاته الهائلة .

 ولغة الجسد عند محمد صلاح تعكس الكثير عن شخصيته وعبقريته ففي أكثر صوره تراه مرفوع الرأس متطلعا إلى الأمام وإلى أعلى , أو تراه وكأنه يطير , أو تراه فاتحا ذراعيه للنجاح ومبتسما في رضى , وقد كان المشهد القصير في مبارة الكونغو 8 أكتوبر 2017 م مجسدا لما هو أكثر من ذلك , فقد عايش محمد صلاح الحدث بكل مراحله وتنوعت مشاعره وتعبيراته بشكل طبيعي جدا ومذهل جدا , فمن المعروف أننا أمام أي حدث صدمي نمر بعدد من الحالات النفسية أولها الصدمة , وثانيها الإنكار وثالثها الغضب ورابعها الحزن وخامسها التعافي والعودة إلى الحياة الطبيعية أو الإستمرار في حالة الحزن والإنكسار , أما ما حدث لصلاح فكان أكثر ثراءا من ذلك وتداخلت بعض المراحل في بعضها البعض وتواصلت تلك المشاعر مع مشاعر وتعبيرات ملايين المشاهدين والمعجبين فكأنه كان مايسترو يعزف سيمفونية وجدانية مع ملايين البشر , فقد شعر بالصدمة وظهر على وجهه الذهول حين سجل فريق الكونغو هدف التعادل في الدقائق الأخيرة للمباراة والذي يعني عدم تأهل مصر لكأس العالم , وراح يضرب وجهه بيديه في حسرة وألم , وراح ينظر وكأنه لايصدق أن ماحدث قد حدث , ثم يسيطر عليه حزن شديد يستجيب له بإلقاء جسده في حركة انبطاح على الأرض ويدفن رأسه بين يديه وكأنه لايحتمل رؤية المشهد , وهنا يتداخل الحزن مع الإنكار , ثم يحاول رفع رأسه للحظة قصيرة ولكنها تسقط منه على الأرض مرة أخرى في تعبير يائس حزين , إذ لم يتبق على نهاية المباراة غير ثلاث دقائق , ولكنه مع ذلك لم يستسلم فبدأ بتحريك ذراعيه ورجليه ليقوم من وضع الإنبطاح في محاولة لقبول الأمر الواقع والتعامل معه , وحين يقف منتصبا يعاوده شعور بالحزن والأسى والندم فيضرب بيديه على رجليه , ويشعر هنا بقلة الحيلة فيدفع بذراعيه إلى الخلف محاولا شد أزره , ثم يشبك يديه خلف رأسه وتعلو وجهه علامات الحزن الممزوجة بالحسرة والغضب , ويتحول الغضب إلى صرخة بأعلى صوته , وفجأة تتغير الصورة فتظهر في عينيه نظرات التحدي والإصرار ممزوجة بألم وحزن وغضب , وفي ثوان قليلة تظهر على وجهه علامات الأمل فيرفع يديه وذراعيه ويرفرف بهما لأعلى وكأنه يستحث نفسه وزملاءه والجمهور لمواصلة الجهد ومواصلة التشجيع , ويستجيب الجميع لهذا النداء العبقري النادر , ويدب الحماس في أوصاله فيصفق وكأنه منتصر , وهذا حدس عجيب , فكأنما يقرأ ما سيحدث فعلا بعد دقيقتين حيث يسجل هدف الفوز في الدقيقة الأخيرة للمباراة ويصعد الفريق المصري لكأس العالم , ويرفع محمد صلاح إصبعي يديه السبابة إلى أعلى متطلعا نحو السماء حامدا شاكرا. هل يتصور أحد أن هذا السيناريو يحدث وتلك المراحل الوجدانية تتحقق وتتابع وتتداخل في دقيقة واحدة , وكأن هذا المشهد يعكس في تكثيف شديد سيناريو حياة هذا البطل الإستثنائي من حيث الثراء والتنوع والسرعة والتحولات المتجهة نحو الإنتصار في أحلك الظروف وضد قوانين المنطق والواقع المحبط .  حقا هذا المشهد الفريد الذي تناقلته كل المواقع وصفحات التواصل الإجتماعي يلخص جوانب عبقرية وشخصية محمد صلاح أيقونة النجاح والطموح والتميز والإنتصار ليس فقط في المجال الكروي بل في المجال الحياتي والإنساني .


اذا كان لديك مشكلة وترغب فى عرضها على العيادة النفسية

سجل ايميلك لتصلك الاعداد الجديدة من مجلة النفس المطمئنة