الذهن المشتت: تحديات العيش في الحقبة الرقمية

الذهن المشتت: تحديات العيش في الحقبة الرقمية

أصبحنا نعيش في عالم لم يكن بالإمكان حتى تخيله قبل عقود قليلة من الآن. عالم يقضي فيه البالغون عشر ساعات يوميا على الأقل متصلين بالإنترنت، وهو عالم من الشاشات الإلكترونية، والمعلومات الفورية، أو بعبارة أخري عالم التشتيت الرقمي. وأصبح الإنسان المعاصر كأنه دائما "تحت الطلب" لاستقبال رسائل البريد الإلكتروني، والرسائل النصية، وتحديثات الحالة،. تحولنا إلى مجتمع من الأذهان المشتتة؛ فعملية المقاطعة الرقمية المستمرة والمعلومات التي تزيد عن الحاجة تفتت انتباهنا وتشتته وتعوق تركيزنا، والجيل الحالي، أو بعبارة أخري جيل الشاشة يراقب عن كثب التدفق السريع للمعلومات، إنهم يستيقظون علي صوت منبه الهاتف، ويتصفحون آخر الأخبار والشائعات علي الجهاز نفسه. إننا لا نستخدم الإنترنت وإنما الإنترنت هو الذي يستخدمنا ويرغمنا على القيام بمهام متعددة في الوقت نفسه مما يؤدي إلي زيادة الأخطاء أثناء معالجة المعلومات، وأصبحت وسائل الإعلام الاجتماعي تحوز الكثير من انتباهنا، وتضع طنينا متواصلا في الخلفية. ويعد الانتباه وعاء الذهب الذي نبحث عنه جميعا لكي نكون أكثر إنتاجا، وأقل توترا.

تستقبلُ المراكز الحسية في الدماغ آلاف المدخلات البيئية، بعض هذه المدخلات متصلٌ ومرتبطٌ بالسلوك الحالي للشخص، وبعضها الآخر غير ذي صلة؛ فمثلًا تتصل الكلمات المرئية المطبوعة على صفحة بعملية القراءة، ولكن الانطباع البَصري للمكتب الموضوع عليه هذه الصفحة يكون غير متصلٍ بالقراءةِ؛ ولأننا لا نستطيع مُعالجة كل هذه المُدخلات بشكلٍ مُتصاحبٍ، فَيجب أن يكون هناك عمليات أو مُعالجات تنتقي بعض هذه المدخلات، وتستبعد الأخرى، تلك المعالجات (العمليات) يُشار إليها إجمالًا بالانتباه أو بعبارة أدق " الانتباه الانتقائي".

والانتباه يُحسِّن أداء مدى واسع من المهام، مثل الإدراك: "فما يدركه الأفراد يتحدد بما ينتبهون إليه" والأنشطة الحركية المتنوعة: " فمن بين أفعال عديدة ممكنة يمكن أداؤها، ينتقي الانتباهُ فقط مجموعةً فرعيةً منها للأداء"، وأنواع كثيرة من الإجراءات المعرفية: "فمن بين قرارات عديدة ممكنة يمكن أن نتخذها، ينتقي الانتباه فقط مجموعةً فرعية منها للمعالجة، ومن بين ذكريات عديدة ممكنة يمكن أن نتذكرها، ينتقي الانتباه فقط مجموعة فرعية منها للدخول".

وإخفاقات الانتباه، هي التحول اللاإرادي من معالجة المعلومات المتصلة بالمهمة إلي معالجة المعلومات غير المتصلة بالمهمة وتشير إلي مواقف لا يستطيع الفرد خلالها الاحتفاظ بالانتباه واستمراره في مهمة ما؛ مما يؤدي إلي هفوة عارضة Lapse . وتُسمي تشتيتاًDistraction حينما تنشأ من تنبيهات خارجية مشتتة( مثل ضوضاء مرتفعة أو استمرار رنين هاتف في الحجرة ، أو حديث جانبي أثناء القراءة بالمكتبة) ، وتسمي شرود الذهن Mind Wandering  حينما تنشأ من السرحان في أفكار داخلية أو تأملات غير مرتبطة كلياً بالمهمة  (مثل الانشغال بأحلام اليقظة حول إجازة الصيف عن محتوي الدرس داخل الفصل)، في حين تسمي السهوAbsent-Mindedness (زلات الفعلAction Slips) حينما تؤدي إلي خطأ في أداء فعل ما نظراً لعدم الالتفات وإبداء الاهتمام لأحد مكونات المهمة مثل ترك مشروب علي سطح السيارة ، أو نفاذ بنزين السيارة في الطريق إلي المنزل لعدم الالتفات للإشارة التحذيرية عن ذلك أو ترك بعض أدوات الجراحة في بطن المريض .

إنَّ الذهن حينما يشرد عن اللحظة الراهنة وينتبه إلى أشياء أخرى، فإن ذلك يمنع أو يُعوِّق الصحة النفسية للفرد؛ فالشرود عن اللحظة الراهنة بالاندماج والانخراط سواء في الماضي أو المستقبل، يأخذ انتباه الشخص، ويُؤثر في كفاءة تعامله مع الخبرة الراهنة، ويؤدي -غالبًا -إلى أخطاء ذات أساس معرفي تعوق مهمة الهناء الشخصي.

الإنترنت يستحوذ على انتباهنا ليشتته فقط، بسبب كل هذه المحفزات والرسائل المختلفة التي يطلقها صوبنا. ويُبدد عملية الانتباه  علي أمور لا تقع ضمن اهتمامنا، نشاهد فيلما  علي اليوتيوب بينما نتفقد بريدا إلكترونيا ورد للتو ، نسأل جوجل سؤالا ، فينتهي بنا المطاف إلي موقع يضم سلسلة من الروابط عن موضوع لا علاقة له بما نبحث  عنه فنشعر بالإرهاق ونصل إلي ما يعرف اصطلاحا بالانتباه المنقسم .لا يمكننا أن نركز ونحن منشغلون  بوسائل التشتت  الرقمي ، وقد نشعر بالعصبية وعدم الرضا والضغط. ،  والاعتقاد بالقدرة علي القيام بعدة مهام في الوقت نفسه هو اعتقاد خاطئ ويعد أكثر الخرافات المتعلقة بالإنترنت، فأداء الإفراد يكون  سيئا عند تعدد  المهام حيث أنهم يكونون غير قادرين علي استبعاد مالا صلة له بهدفهم الحالي. وتعني عدم القدرة على الاستبعاد أن أداءهم يتباطأ بفعل تلك المعلومات غير ذات الصلة. كما ذكرت البحوث أن تعدد المهام في استخدام التقنيات الرقمية (مثل التحول من التحقق من رسائل البريد الإلكتروني إلى إجراء محادثات عبر الرسائل الفورية مع شخص ما، وكتابة الرسائل النصية أو التنقل من موقع ألي آخر) يؤدي إلي إعاقة الاستذكار، وإطالة الوقت المنقضي في قراءة كتاب الكتروني مقارنة بكتاب مطبوع، وتضرر الفهم أثناء المحاضرات، كما أوضحت أن هناك علاقة عكسية بين كم الوقت المنقضي علي الفيسبوك والمعدل التراكمي للدرجات. وقد ذكر مستخدمو الفيسبوك أيضا أنهم يقضون ساعات أقل في كل أسبوع في الاستذكار بالمقارنة مع غير المستخدمين للفيسبوك.، فتشير النتائج المتوفرة إلى أن تعدد المهام يؤدي إلى إطالة وقت التعلم، وزيادة الأخطاء أثناء معالجة المعلومات.

يدمر كل من الانتباه المنقسم والتشتيت الرقمي قدراتنا الإنتاجية. بل أن 70% يشعرون بالقلق عندما لا يكونون متصلين بالإنترنت. يتفقد كثير من الناس هواتفهم أكثر من مرة كل 15 دقيقة وبذلك لا تترك المقاطعات العديدة وقتا للتفكير.

وتجذب الهواتف المحمولة انتباهنا وتشتتنا بالكامل، إذا كانت هناك رسالة جديدة، لا نستطيع مقاومة تفقدها. وهذا رد فعل السعي للمتعة؛ فالرسالة تعطينا مكانة، وتزيد من غرورنا بأنفسنا، شخص ما يحبني، عندما تسمع الرنين المصاحب لوصول رسالة نصية أو رسالة بريد إلكتروني يجذبك هاتفك جسديا بعيدا عما كنت تفعله. وبذلك نتورط في تطوير مناطق التفكير السريع والتشتيت في العقل، وندع مناطق التفكير طويل المدى والإبداع والتأمل والسعي للاختلاء بالذات. وأجزاء تقوية التفكير في العقل تتلف نتيجة إهمالها. حتي عندما لا ترن الهواتف، أو تستقبل رسائل، نكون في وضع استعداد، وجزءا من تركيزنا ينصب عليه ؛ لذلك لا يمكننا صب كامل تركيزنا علي المهمة التي ننجزها

وتجذبنا مواقع التواصل الاجتماعي وتبدد انتباهنا؛ لأنها أداة اجتماعية ويشغلنا قضاء الكثير من الوقت في بناء وتحسين هويتنا الإلكترونية، ويجعلنا " الخوف من التفويت" نتفقد المواقع طوال الوقت، تحسبا لحدوث أي شيء جديد ويعتبر الأصدقاء من أكبر مصادر التشتيت علي مواقع التواصل الاجتماعي، نقرأ تحديثات حالتهم ، ونشاهد صورهم ، ولكننا في الواقع بالكاد نعرفهم، إنها صداقات " حياة الشاشة" ، أصبحنا نتخلى عن عادات المقابلة وجها لوجه ، وتكوين صداقات " الحياة الواقعية"، وفقدنا الألفة مع الآخرين والاستماع إلي أصواتهم ، ورؤية وجوههم

والتشتت الرقمي تحول من سلوك مزعج إلى سلوك محفوف بالمخاطر لاسيما عند القيادة، إنك أكثر عرضة بمقدار أربعة أضعاف للتعرض للحوادث في أثناء القيادة وأنت تتحدث في الهاتف، ويصبح الخطر أكبر عند كتابة رسائل نصية تصبح أكثر عرضة بثمانية أضعاف للتعرض للحوادث من السائق غير المشتت.

كما أن السير تحت تأثير التشتت يؤدي إلى إصابات خطيرة، أكثر من 1000 شخص تم علاجهم في أقسام الطوارئ في الولايات المتحدة عام 2011 لتعرضهم لإصابات بسبب استخدامهم الهواتف المحمولة أو الأجهزة الإلكترونية الأخرى في أثناء السير مثل الاصطدام بأعمدة الإنارة، أو السقوط في حفرة أو كسر إشارة المرور. يحرمنا التشتت الرقمي من اليقظة العقلية أو التعقل وهو التفكير والتأمل العميقان حيث يكون انتباهك حاضرا بالكامل وتلك الأمور التي يحتاجها الإنسان من اجل التنمية وحل المشاكل والابتكار، وتدفق التركيز هي الحالة المناقضة للاتصال والتشتت الدائمين والتركيز بشكل كامل علي المهمة التي بين أيدينا؛ ففي حالة التشتت الرقمي يعمل العقل بسرعة، وعادة يفرط في تحميل المعلومات. أما في حالة تدفق التركيز، فيركز العقل بشدة على شيء واحد فقط.

 

اذا كان لديك مشكلة وترغب فى عرضها على العيادة النفسية

سجل ايميلك لتصلك الاعداد الجديدة من مجلة النفس المطمئنة